الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

الأغنية الحجازية أين إلى أين؟(نشرت في مجلة جدة عدد شهر نوفمبر)

من بين أزقة الحارات القديمة و من على رؤوس مشربيات البيوت العتيقة أطلت المفردة الحجازية الأصيلة معجونة بعبق التاريخ القديم. بصورتها البهية، بسلاستها و خفة ظلها، بشجنها و عذوبة لحنها حاملة بين ثناياها عبقا ممزوجا بمختلف الأعراق و الثقافات بتناغم نادر و نكهة أصيلة تتلقفها الآذان بشوق و لهفة، و يطرب لها القلب في شجن.عبقرية هذه المفردة الجميلة تكمن في أنها سهلة الوصول إلى القلب كما أنها تحمل في طياتها شجنا جميلا و حزنا دفينا يجعلها من أجمل ما تعبر به النفس عما يخالجها. و لما كان الشعر عند العرب من أجدى وسائل التعبير كانت المفردة الحجازية عروسه، فأضفت بخفتها و رونقها على الشعر جمالا ما بعده جمال. كتب العديد من أبناء الحجاز أبياتا و قصائد مستخدمين لهجهتهم الحجازية فكانت أبياتهم من جنس بيئتهم، التقطوها من أفواه الناس فوصلت إلى قلوبهم مباشرة، تحدثت إليها، عبرت عنها و انتزعت آهاتها. و قد تغنى بها العديد من رواد الغناء الأوائل في الحجاز فكان أجمل إنتاجهم و أغزره. لكن مع الأسف، نلاحظ في الزمن الحالي اندثار المفردة الحجازية و اختفائها التام من قاموسنا الغنائي، و هي التي كانت سائدة قبل ثلاثين عاما أو يزيد. هل انحسرت الأصالة عن المفردة الحجازية؟ هل فقدت رونقها و جاذبيتها و سحرها الأزلي؟ لم تفقد المفردة الحجازية شيئا من ذلك، إنما كانت هناك ظروف و أحداث و متغيرات متواكبة كان لها الأثر الأكبر في اختفاء المفردة الحجازية من قاموسنا الغنائي. لعل من أبرز هذه المتغيرات وفاة العديد من الرواد الذين أسسو لهذا اللون الحجازي من حيث النص و اللحن، و لهث الجيل الجديد نحو مفردة بيضاء خالية الدسم لمواكبة بروز الأغنية الخليجية و هيمنتها على الساحة. و لا ننسى التغيير الكبير في ثقافة و ذوق المتلقي الناجم عن تطور المشهد الغنائي بشكل عام و تحول الأغنية من فن إلى صناعة و تجارة جامدة لا تعترف إلا بالعائد المادي. فظهرت شركات إنتاج ضخمة بألاتها الإعلامية الهائلة لتتحكم بالذوق العام بنصوص مدعومة و تمكنت من إرساء قواعد متينة لفن غنائي جديد ما عاد فيه مكان للمفردة الحجازية ببساطتها و صفائها و شعبيتها. فالشعر الغنائي الحجازي كان يكتبه أناس بسطاء من عامة الناس ليس لديهم القدرة على دعم نصوصهم. فحتى تعود الأغنية إلى بساطتها القديمة، و تعود لتعبر عما في خاطر الناس أو تقوم إحدى شركات الانتاج بعمل دراسة جدوى يتضح من خلالها أن الأغنية الحجازية قد تحقق أرباحا مجزية، ستبقى المفردة الحجازية حبيسة الأزقة القديمة ساكنة في قلوب أهلها محتفظة بنقائها و بساطتها و نكهتها.