الأربعاء، 5 مايو 2010

و رحل الولد الشقي

و رحل الولد الشقي بعد رحلة طويلة في بلاط صاحبة الجلالة. رحل هكذا بكل بساطة. غيبه الموت و إن كنت أشعر أن روحه المرحة ما زالت تروم أزقة الجيزة و أنه من مكانه الآن مازال يسخر من الأوضاع المقلوبة و يتتريق علينا جميعا بأسلوبه الذي يقطر سخرية. رحل صعلوك من صعاليك الحياة، بل هو في نظري عميد الصعاليك. محمود السعدني هو امتداد لعبدالله النديم الذي جالس الحشاشين في غرزهم نام مع الحمالين في عششهم و رغم بساطته و صعلوكيته كان له عظيم الأثر على قلوب الجماهير لدرجة أن المستعمر نفاه و سجنه و أبعده. و هكذا كان الولد الشقي، عاش حياته بالطول و العرض و رمى نفسه هكذا في خضم بحر الدنيا غير عابئ بالعواقب. لم يترك زقاقا من أزقة الجيزة إلا كانت له فيه حكاية و لا قهوة من القهاوي التي يرتادها الصنايعية و الذين هم على باب الله إلا و فيها من يحبه و يسأل عنه. ترك لنا تجربة مثيرة غنية بالعمق فالولد الشقي خالط الجميع و جالسهم من رؤساء الدول إلى سكان العشش و من أعلام الأدب إلى رواد الغرز وأثر فيهم جميعا دون استثناء. رحل الولد الشقي و ترك لنا بين ثنايا أحرفه الرشيقة تجربة عريضة نتعلم منها. كان بأسلوبه اللاذع السخرية الشديد العمق أيضا ينفذ إلى القلوب مباشرة لأنه عبر عما فيها بوضوح دون مواربة، بمهارة الصائغ المحترف و هو يصنع من الأحجار الجامدة تحفا فنية. جاب أرض الله الواسعة من أقصاها إلى أقصاها، من النجوع و الكفور إلى القرى و البنادر و من أحراش أفريقيا إلى جامعات أمريكا و له في لندن حكايات و روايات و في العراق عاش عمرا و على شاطئ الخليج تسلطح و في شوارع فرنسا تمخطر، ابن عطوطة كما وصف نفسه. ترك لنا كتبا تعد أعلاما في أدب الرحلات. صعلوك سليط اللسان حتى رؤساء الدول لم يتركهم في حالهم. سجنه السادات و أبعده، حاربه القذافي تآمر عليه بعض أصحاب النفوذ هنا و هناك إلا أن الولد الشقي خرج من كل ذلك زي الشعرة من العجين رحلو كلهم و بقي قلم السعدني شاهدا على عصره. أثخنته جراح المنفى، عذابات السجن و لوعة الغربة، ألم التجاهل و عدم التقديرإلا أن كل ذلك لم يكسر نفس الولد الشقي بل أنه حول كل هذه التجارب كتبا لا تقدر بثمن. أخيرا آن للولد الشقي أن يستريح تاركا خلفه أناسا يتتبعون الطريق مستدلين بقبس أضاءه السعدني و دروبا مهدتها كتبه و أفكاره. تفتقد اليوم الشفاه ابتساماتها و تبكيك أزقة الجيزة و حواريها و ترثيك قلوب أثرت فيها و إن لم تكن قد التقيتها قط. فطوبى للساخر الكبير و طوبة لمن لم يفهم؛ على طريقة عمنا محمود السعدني...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق