الأحد، 11 أكتوبر 2009

الحكواتية (جريدة الوطن 10 أكتوبر 2009)

تواجد الحكواتية في الوطن العربي منذ قديم الزمان. كانوا يتوسطون المقاهي و مجالس الوجهاء يتأبطون كتبا و أحيانا يتأبطون خيالهم يروون منه قصص أبو زيد الهلالي و يحكون بطولات عنترة و غراميات قيس بن الملوح، و ينسجون عوالم من خيال يسرح فيها السامعون فيتمايلون طربا لشعر قيس و يصرخون حماسة لبطولات عنترة و ينصتون في شجن لتغريبة الهلالي. ثم ينفض المجلس و يقنع الحكواتي بما تجود به أنفس رواد المقهى من قروش قليلة يستعين بها على شظف العيش. لكن مع التطور الهائل الذي حل على الدنيا و العولمة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تغير كل شئ. فتحول عنترة إلى فيلم سينيمائي، وانتهى أبو زيد الهلالي إلى مسلسل من عدة أجزاء، فكان لزاما على الحكواتي أن يتطورو ينفض عن نفسه غبار الزمان و قد كان. تحول الحكواتي من شخص غلبان و مطهوم يطوف المقاهي و مجالس الأغنياء ليجني لقمة عيشه إلى صاحب قناة فضائية يخاطب الجيل الجديد يحكي لهم قصصا و يسرد أحداثا ما أنزل الله بها من سلطان ينسبها لشخصيات تاريخية دون حسيب أو رقيب، و يفتي في شتى مسائل الحياة ففي الشعر هو شاعر أعظم من المتنبي رغم أنف الشعراء، و في الفكر له مؤلفات و كتب، و في الاقتصاد ينظر، و في السياسة يحلل و يتنبأ. و الويل و الثبور و عظائم الأمور لمن ينتقد أو يعارض. سيتهم حتما بالزندقة و الهرطقة و قلة المروة و ما هو أعظم من ذلك. و ستهب الجموع تدافع عن الحكواتي الجليل ضد شياطين الإنس العابثة. سبحان مغير الأحوال، أصبح الحكواتي في هذا الزمان يدعى إلى الصروح الجامعية ليلقي خطبا و يوجه الناس إلى حسن السواء، و الناس يتدافعون لسماع رأي الحكواتي في مسألة لا ناقة له فيها و لا بعير. أصبحت له اليد الطولى على كل شئ، فلا تقام ندوة إلا إذا شرفها بحضوره و مسح عليها من بركته. و لا يفتتح صرح علمي إلا إذا أفاد جنابه بصلاح الأمر و لا تكتشف نظرية علمية و تعتمد إلا إذا بصم بعدم تعارضها مع الثوابت و الخصوصيات. ومع هذه القفزة الهائلة و المكانة الاجتماعية الجديدة أصبح لزاما على الحكواتي أن يغير شكله و مظهره بل ومسمى مهنته. أصبح الآن يرتدي بدل أفرنجي من أغلى الماركات، أو بشتا مقصبا وكأنه وزير الدولة.أصبح يسمى بصاحب الفضيلة، أو سعادة الأستاذ الدكتور العلامة المفكر شهبندر التجار حكيم الزمان سيد هذا العصر و الأوان. إلا أنه و على الرغم من كل هذه المتغيرات يدرك في قرارة نفسه أنه لم يتبوء هذه المكانة إلا بسبب الأوضاع المقلوبة و أنه في نهاية الأمر ليس إلا..مجرد.. حكواتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق